ثقافة وفنون

نص نقدي مقابل لنص أشواك باكية للكاتب هدى حجاجي : بقلم أ٠حميد العنبر الخويلدي – العراق –  

إعداد: دليلة قدور

تأكيداً إن الهاجس التذكّري هنا ، هو المسبار الراصد ، أو هو  النشور الأول للمسح الفني في بحثنا هذا ، والذي يحتاط به القاص المبدع ، ويستمد منه في كشف المكانية الاعتبارية للقصة بالضبط ، وترصين

 نقاط حدودها الملموسة عياناً ، مضافاً لها مكانيةً أخرى وهي النتيجة الحاصلة على مستوى

بلوغ الكمال المرجو ، فلعلَّ بالفن والأدب مكانيّتيْنِ ، نقصد لكل نتاج تحفّه أو تحمله مكانان ملموسان ، مكان وجوده الحقيقي المادي وهو الطبيعة المكتظّة بالمخلوقات ذات الترابط الوجودي القائم ، ونحن منها ، والمكان الأخر هو المكان الاعتباري للقصة.

وهنا ريع الفنية والأدبية عند الكاتب ، بل هي الحرية المكانية

ولربَّ سؤال ،أين يقف المبدع القاص في لحظة  السحب الاستدعائي للخامة ، أو استجلاب الطينة الأولى؟

الكاتبة هدى بالضبط لو تحرّينا من باب النقد هذا ، فنُعيّن أبنيّتَها المكانية ، قد تكون داخل سيارتها ، أو على حافة بحر تنظر تلاطم أمواجه وبواخره، وقد تكون بعيدةً عن المشهد نفسه ، فلعلّ الجسد يرتحل ، نعم

 يهاجر كالطير في كل لحظة ، وهذي حرية الفن والأدب المفتوحة الحلقات ، ومنها تأتي مطالبة  المبدع بالحرية ، والتي ينوي إنتاجها وفرضها ، المبدع حرٌّ  غير مقيد حتماً ، وإلا ماكان مبدعاً ، فقط المبدعون هم  الذين يعرفون نُظُمَ الحرية وحجمها ومردود أسبابها ، ومن بعدهم يأتي دور السياسيين، ليحدّوا المكانية لها بالطبشور على اللوح أو على الأرض أكثر شي ، ويقولوا فوتوا من هنا واهدموا هذا أو وسّعوا الممرات ،

الفنانون قبلُ أكيدٌ قبلُ ، يرون ما في العمق ، وهو تعاطٍ إدراكيٌّ ، وهذا مرتهن بالموهبة وطاقتها ، أو هو قربك وبعدك من العدمي والغيبي ، فنحن مهما شطّت بنا الجادةُ تجدْنا إيمانيين ،

نؤمن أن (الإيمان قبل المعرفة ) بالفطرة ، وهذا ينبوع الحقيقة التي تفيض منها الذات وتدلع سواقيها ،

الأشواك الباكية : عنوان تشكيلي جامع لروح المكانية التي بحثنا وركّزنا عليها الآن ، إذ وجدنا

بالمتعارف مكانيّتيْن ، وكان قد عيّناها أعلاه ، وقد نتوسّع ونقول إن المكانية نطاق مفتوح ومتعدد الخانات ، من السماء كجهة  عليا إلى وجه الأرض كحياة دنيا ، أي منها الغيبي هناك ومنه ينفتق الجنين البِكْر ،  و كما يقولون عنه ، إنه عالم القوة نعم أو عالم الذر ، والعدمي كذلك و بأنواعه ، المظلم منه والمستنير، وبه يترعرع الكائن مصافيَ ما له من حتوم وفترة ، والمكانية الوجودية والتي تلبسُنا ونلبسُها في المادي عياناً ،

وأبلغ المكانيات  هنا هي المكانية المقتبسة إبداعا وهي المرجوة ، فالإبداع جدل مشتمل على  روح الخلود والبقاء عنوةً ، وله سر وشيفرة لا يفقهها إلا فنانٌ حاذق ،نعم كلنا نُفنى ونتبدّل إلى غير صورة لولا الفن الضامن لوجودنا حتمياًً مادمنا قائمين وكل حسب مصنّفه وهويته، إذن لو عددنا المكانيّات التي تولد المخلوق الحيوي أيّما مخلوق  قصة أشواك باكية  أو وردة أوغزال أو نجمة  وغيرها من المخلوقات  نقول ،

١-المكانية المطلقة وهي الرحم الصفري ، ٢- المكانية العدمية  ، وهذي طبيعة مناخية ملائمة ، ديماسية ومُسْفِرة  ، ٣- المكانية الوجودية  مادية الأركان والجهات والكتل ، ٤- المكانية الاعتبارية وهي الحاصل الحركي للصورة أيما صورة حتى اللامرئي منها ، وهذي نعني بها الحرية المرجوة ، والحرية اقتباس إبداع الذات الموهوب وصياغاتها حسب الصفات والنظم ،

(أشواك باكية ) مرت من هنا من هذا السلم التدرجي  وحسب عوامل التصيّر الجمالي فيها و كانت قد أخذت دورة استحالتها في الحرية والمنال .

هدى القاصّة تترصّد غايتها باللاشعور وهو العمق الذاتي باتجاه المكانيات العميقة ، وبشعورها وهو العمق الاستيعابي من خلال حركة الدارج المترابط في الواقع  ، تلفُّ وتلتفُّ  جدلياً من حيث دوران الأشياء وتفاعلها معها ، فهناك غامض يحمل روح التكوين ، ليكون ويسهم بدورة الحياة ، ولكن عن طريق ذات باهرة ، هي الذات المؤهلة التي تملك رياضة التخلّق والابتكار. والجمع الفيزيائي  الكوني والقيمي للصورة النصّيّة،

فكل صورة ما لها من كمال تشكيلي إلا وبها من روح الوجود المكانيّة  وصفات اللدنيات المستترة قبلها ، العدمية والغيبية  إلى الفهرس الاعتباري الذي نرى جاهزية الجمال به ،فالوصفية التي أعلنها الراوي  مثلاً كانت قياساً معلناً للحصر  الأول لهيكلة المكانية المباشرة ولكنها في مستوى الوجود المشحون بأطياف الصور  وحركة الرموز وتفاعلها ، نعم وجد ضالته فيها ، وجدها على شاكلة القصّ الفني معرفة ، باعتبار أن المبنى  النصي مكاشفة المرئي والمحسوس في الموقف التصيُّري و ما تلاه ،  موقف ملازمة المبدع مع عناصره وإمكاناته ،(دخان السنوات الطوال ، سقف الردهة الوسطى ، الفرن البارد ، ثقوب صغيرة ، كوة ضيقة ينام فيها على الدوام قطعتا خشب متقاطعتان ، الأبواب المنهكة ، موقد طيني ، حزمة حطب ، ثلاث دور  تدير ظهرها لهذي الدار ،  أنين نحلة  ).

هذي العناصر  المذكورة خطوط أشرت لنا حدود المكانية الأخيرة وهي التي نستشف من خلال ترابطها  حاصل القص الحركي جدلاً ديناميكياً ومكاشفةً للذات، فالقاص بحكم ذهنيته وملكاته التعبيرية يرسم نسبيةً مبهرةً من الفن والأدب يستدرج بها معلوم الجمال والمعرفة جراء ما تعكس عناصر الخلق عنده من معان عميقة ورؤى، يعرف تماماً إلى أي الجهات يدفع  ، ولأي الصفات والمضامين يصنع ، ليخدم غرضه الفني ،

(لم أدخل هذه الدار منذ احد عشر عامًا ، كنت في العاشرة يومها كل شي ازداد قدماً ) الهاجس التذكري كان أول وخزة نفذت بجسد الوقت وأول لمسة على جسد مكان في طور الحصر ، لذا نجد تسمية الجنس الأدبي هذا بالقصة ، والمشتق من حركة سلوكية واقعية ، قص يقصُّ قصّاً أقصوصة ، وكأنَّ شيئاً جاهزا من قبل ، ويدٌ أخذت بالقصِّ  والتقطيع والتتابع اللَّحْمَوي للبنية حتى إعطاء المراد كاملاً  إلى الأخير ، وهكذا هو نزول الماهيات الحتمي ، وكان قد ذكرنا في بحوث سبقت أن القصة واقع سبق المبدع ، المبدع مُخْتزِل

أو عالم أحفوريٌّ ينبش عن الهيئات الصورية واللُّقى  المكنونة في تلول الزمان والمعرفة، كاشفٌ عنها الغطاءَ والغبار ، ليقدمها بديعةً منيعةً من الرثاثة والكمّي ، كذلك الرواية وهي المساحة الأكبر جداً ، والمستوعبةُ  لحياة اشمل وأكثر ،

هذا كله موجود في طبق مكانية وجودية سبقت وحفظت عوالماً  من حركة الكون ونواميسه وبحكم وجود الإنسان نفسه ، وكانت مسرحاً وعَرْضاً يوماً ما ، فجاء الفنان إنقاذا يعيد روحَ وجودٍ  مكاني آخر َ يراه  موائماً ، ليغرس بذور الضوء به ، ويقدم لنا صيغاً باهرة محدثةً تزينُ المجال وتزيده بهاءًا ،

(كانت قطة  صغيرة تشاهد باهتمام  بالغ قطةً كبيرةً ، وهي تحاول إمساك شي وهمي بين مخالبها

ثم تلتقطه بفمها ببراعة، هذي قطة تعلم ابنتها كيف تصطاد الفئران ، انسكب صوت أبيه بأذنيه ، وأحس انّ ذراعاً حنوناً تحمله وبأنّه طفل ، حدّق بالقطة وابنتَها ،عاد إلى عمره الطبيعي ، وراح ينظر  بإمعان إليهما ، )ومن هنا بدأ ديالكتيك خاص  للمعاني بشكل مؤثّر، وبدأ تفاعل اقتراني ، وهذا يؤدي بنا إلى توالد واتساع المشهد ، وتنامي روح جديدة في القص الفني ، و في منهج أصحابي نطلق عليه الاعتبار المتعالي ، فيما لو كان عبقرياً ، كفنون كبار كتابنا العرب أو عند كتابات المبدعين العالميين ، وفي نفس الوقت نعيّن نسغ المكانية الأخيرة عادةً وهي الاعتبار الوجودي الصبغة  ويكون أقرب  للحواس والشعورية بل هو الذي نعتبره المتبنى الذهني للخيال والفكرة المحدثة ، بل تكمن به منطقة ترابط الموجودات،فضلاً عن مرورنا نقدياً بتوضيح مضمون مكانية أشواك باكية ، بل نقول لها الفضل في ولادة  الحوار والجدل التنظيري  هذا .

Leave a Reply