ثقافة وفنون

حقيقة القرية الكونية و سيطرة التقنية : الاستخدام و التأثير على قيم الشباب و قيم الإعلام

إعداد: دليلة قدور

  (الجزء الأول)

  فـــؤاد بداني –أستاذ محاضر أ تخصص الاتصال (الجزائر)

 

    يقو ل هيدجر : » ليست التقنية هي ما هو خطير .لا وجود لما هو شيطاني فيها بل هناك غموض في ماهيتها… إن التهديد الذي يثقل كاهل الإنسان لا يأتي في الدرجة الأولى من الآلات و الأجهزة التقنية التي يمكن بالفعل أن تكون قاتلة بل إن التهديد الحقيقي كان قد أصاب من قبل الإنسان في كينونتها » .(1)

   كما يقول  « ماكلوهان » في كتابه الشهير ”الوسيلة هي الرسالة » إننا نعيش الآن في قرية عالمية وأن الوسائل الإلكترونية الحديثة ربطت كالً منا بالأخر  وبالتالي فإن المجتمع  لن يعيش  عزلة بعد الآن وهذا يجبرنا على التفاعل والمشاركة فقد تغلبت الوسائل الإلكترونية على القيود والوقت والمسافة وأدت إلى استمرار اهتمامنا كمواطنين بكل القضايا المشتركة في الرأي العام الافتراضي .

    و تعتبر شبكات التواصل الاجتماعية الحديثة من أهم آليات تشكيل وصناعة الرأي العام الافتراضي في وقتنا الحالي، وقد أحدثت فارقا كبيرا لما تملكه من قوة في التأثير، وبما توفره من معلومات وأفكار تسمح للأفراد بتشكيل رؤاهم الخاصة نحو مختلف المواضيع ذات الاهتمام الجماهيري الواسع، ما أهلها بحق لتكون فضاء افتراضيا للنقاش والجدال، وسمحت بذلك للأفراد في هذا الفضاء السيبراني التعبير والنشر بكل حرية بعيدا عن أي ضغوطات أو رقابة مسبقة، في بيئة تمتاز بالتفاعلية بين المستخدمين وبين ما يحيط بهم في بيئتهم من قضايا مختلفة يتبلور حولها رأي عام  محدد.

   لكن ما لاحظناه كباحثين في سوسيولوجيا الاتصال و الإعلام و الظاهرتين الاجتماعية و الاتصالية انحراف وتغيير كبير في مسارات القيم و السلوكات الاجتماعية لمستخدمي هذه الوسائل، فقبل التطرق إلى تفسير الأسباب و تحليل نتائج ذلك ، في البداية نفصّل في الطروحات النظرية التي درست هذا الموضوع وكيف تأسست المقاربات السوسيواتصالية.

   لعلّ أقرب نظرية لهذا الطرح هو الحتمية التكنولوجية لعالم الاتصال مارشال ماكلوهان في نظرية الحتمية التكنولوجية ، بفكرة أن الوسيلة هي الرسالة التي ركز فيها ماكلوهان على أن الوسيلة أو التقنية الاتصالية باتت تحدد ملامح المجتمعات و طبيعة و أنماط الاتصال التي تشكل طبيعة تركيباتها و بناءاتها الاجتماعية .و كحتمية في الاستخدام و التأثر بالوسيلة من حيث أنماط التواصل و التأثر بمحتويات ما ينشر من خلال هذه الوسائل .

    القرية الكونية و مألات الواقع الاتصالي الحقيقي للمجتمع و بناءات الوحدات الاجتماعية و تركيبات البنية العلائقية التي باتت أكثر تعقيدا ما سبق ، بمعنى من المفروض أن التقنية الاتصالية تدعّم و تقوي العلاقات الاجتماعية لا أن تخلق أزمات اتصالية تشكلت أساسا نتاج استبدال الوضعية الحقيقة بالافتراضية التي تغيب فيها القيمة و تغيب فيها أسس التفاهم الحقيقي للحياة الاجتماعية .

   حتى لا يكون كلامنا كحديث الشارع -الذي ينتقد بشّدة استخدامات هذه الوسائل و ما أحدثته من أثار على قيم وسلوكات أولادهم و علاقاتهم و بناءات اجتماعهم ،و هم في وسطها يعمهون و يشجعون أبنائهم باستخدامها من خلال توفير لهم الوسائل التقنية و الأجهزة و توفير لهم الوقت أو تركهم مع وقت الوسيلة و التقنية الاتصالية – نستدرك نظرية الاستخدامات و الإشباعات التي ساهمت بشكل كبير في توضيح الرؤية بين الوسيلة و المستخدم أو بين وسائل الإعلام و الاتصال و أفراد الجمهور و التي حاولت فهم عمليتي الإعلام و الاتصال و  فهم كيف ولماذا يستخدم الأفراد وسائل الإعلام و الاتصال و ما دوافع تعرضهم لوسائل الاتصال الجماهيري  و ما الحاجات التي تدفعهم للجلوس أمام التلفزيون  أو شراء وقراءة الصحف أو سماع برامج الإذاعة أو التفاعل مع شبكات التواصل الاجتماعي وهذه النظرية محتواها يحاول الإجابة على سؤال : لماذا يتصل الناس بالإعلام وما الاحتياجات التي تجعل الأفراد يستخدمون وسائل الإعلام والاتصال وما الوظائف التي تقوم بها عند الناس، وبعبارة أخرى ماذا يفعل الإعلام بالناس ؟ وتبرير قضية أهداف المستقبل من تعرضه لوسائل الإعلام من القضايا التي شغلت المهنيين والعاملين في وسائل الإعلام فترة طويلة (2) ، لذا فإن القائم بالاتصال في وسائل الإعلام كان دائما يسأل نفسه ماذا يحتاج الجمهور وما الفائدة التي تعود عليه من خلال تعرضه لوسائل الإعلام والاتصال.

   كما أن هذه النظرية جاءت من خلال نشاط دؤوب للعلماء » كاتزKatz ، و بلومر Bloomer « ،  وكانت من خلال كتابهما « استخدامات وسائل الاتصال الجماهيري »، لأنه يعتقد البعض أن الإجابة سهلة عن تساؤلات النظرية على أساس أن الناس يتواصلوا مع وسائل الإعلام لحاجات تتمثل في معرفة الأخبار وتفسير الأحداث والتسلية والترفيه، والتعلم والتعليم والتعارف والتفاعل الاجتماعي وغيرها من الوظائف المتعارف عليها.

 إلا أن هذه الاحتياجات شديدة التعقيد عندما يتعلق بمكونات الإنسان النفسية والاجتماعية وهو أبرز ما يميز تفسيرات النظرية. لذا النظرية تعتمد على أن الأفراد مدفوعون بمؤثرات نفسية واجتماعية وثقافية تجعلهم محتاجون للإعلام والاتصال، و من أهم القضايا التي تركز عليها النظرية، نجد مفهومي الدوافع والحاجات  فالحاجة – Need ، تعني « شعور الإنسان بنقص معين من الناحية النفسية والاجتماعية وعند حصوله عليها يشعر بحالة من الرضا والسعادة والإشباع ، أما الدافع Motive  و الذي يعني مثير داخلي أو حالة نفسية أو فسيولوجية داخلية تدفع الإنسان إلي سلوك معين يقوي استجابته إلي مثير ما  يشبع ويلبي حاجته، و هذا ما يحدث من خلال التعرض لمحتويات وسائل الاتصال الجماهيري كما تقاس عادة درجة الدافع بعدة صفات منها الطاقة المبذولة والاستمرار والتنوع، أما إشباع الحاجات وتلبية الرغبات والدوافع ضرورة نفسية واجتماعية عند الأفراد، يستقيم بها الاتزان النفسي والتكيف الاجتماعي مع البيئة التي يعيش فيها افرد الذي تتعدد حاجاته بشكل واسع فنجدها تدور في سياق « الأمن -السعادة -الانتماء  الارتقاء  الاحترام -المعرفة -الحق -الخير- الجمال- الأسرة – الأصدقاء- الجماعة- الرضا- المتعة  الراحة- الفهم  المشاركة- تأكيد الهوية- الشخصية الاجتماعية ».

و هنا وسائل الإعلام في ظل  سياق النظرية تقوم بدور الملبيّ لحاجات الإنسان النفسية والاجتماعية على أساس إن الحاجات تيسر استخدام الإعلام و والحاجات تجعل الجمهور يفسر محتوى الإعلام بطريقة مختلفة، كما نجد من بين الدوافع الاعتبارية الطقوسية ما يحقق الاستمتاع والرضا – والصداقة- الاسترخاء – الهروب من الاضطرابات النفسية والعاطفية وتظهر في الأفلام – المسلسلات – برامج التسلية والترفيه) –

-كما تتنوع الاشباعات التي يمكن أن يحصل عليها الجمهور من وراء تعرضه لوسائل الإعلام. لذا يرتبط تحقق الإشباع من وسائل الإعلام بتوقعات الجمهور من هذه الوسائل فنجد :

   – إشباعات فورية: تحدث للجمهور بشكل سريع مثل المعرفة السريعة أو الترفيه والضحك.

   – إشباعات بطيئة: تحدث بشكل متأخر على مدى بعيد مثل تكوين الاتجاهات والآراء وتتابع الإعلانات.

   – إشباعات تنفيس: تحدث من أجل مساعدة الأفراد للحصول على الراحة والتخلص من القلق و الاضطراب.

   – إشباعات مراقبة البيئة: تحدث من أجل مساعدة الأفراد في الحصول على المعلومات والمعرفة والتفسير.

   – إشباعات المحتوى: تحدث بسبب التعرض لمضامين الإعلام ( أفلام أخبار-دراما – صور )

   – إشباعات عملية: تحدث نتيجة التعود والارتباط بالوسيلة (عادات الناس في التعامل مع الوسائل الإعلامية- مثل الجلوس لمشاهدة التلفاز مباشرة عند العودة إلى المنزل= أو التعرض لشبكات التواصل الاجتماعي يوميا أو أثناء العمل- أو قراءة الصحف في العمل منذ الوصول إلى المكتب- أو قراءة الصحف قبل الخروج من البيت -أو أثناء الإفطار- أو سماع الأخبار أثناء الذهاب إلى العمل- أو أثناء ممارسة العمل.

 

  -الإشباعات المتحققة: والتي تحدث بفعل التعرض بشكل عام .

  -الاشباعات المطلوبة: والتي يسعى الأفراد لها (مثال بحث المراهقين في الفضائيات أو الانترنت عن قضايا أو برامج تلبي احتياجاتهم في هذا السن).

  -إشباعات ذاتية: وهي تحدث وتكسب الفرد مهارات تطويرية ذاتية(مهارات – فنون- خبرات – معرفة – تطوير سلوكيات- تطوير أنماط – تطوير عادات )

  -إشباعات اجتماعية: وهي تحدث مع الفرد من اجل التعامل والاندماج مع شبكة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع.

ويعرف سيرج بروكس (Serge Proulx) المجتمع الافتراضي بأنها: « مجموعة أفراد يستخدمون منتديات المحادثة، حلقات النقاش، أو مجموعات الحوار الذين تنشأ بينهم علاقة انتماء إلى جماعة واحدة (Lien d’appartenance)  ويتقاسمون نفس الأذواق، القيم، والاهتمامات ولهم أهداف مشتركة .

و تفسر (نيومان)حدوث تأثير وسائل الإعلام بهذا الشكل في ضوء سعي الأفراد إلى القبول الاجتماعي، وخشيتهم من العزلة الاجتماعية، فإذا ما اعتقد الأفراد أن آرائهم الشخصية تتفق مع آراءهم الأغلبية في المجتمع، فالأكثر احتمالا أن يعبر الأفراد من آرائهم علنية، مقابل ذلك تقل احتمالات تعبير الأفراد من آراءهم في حالة إدراكهم أن آرائهم لا تتفق ورأي الأغلبية في المجتمع.و تفترض نيومان أن أفراد الجمهور في سعيهم نحو معرفة الاتجاهات السائدة في المجتمع تجاه القضايا المختلفة، يعتمدون بشكل رئيسي على متابعة رسائل الإعلام في تقييمهم لمناخ الرأي السائد، و في تحد لنظرية الإدراك الانتقائي والتي تحد من تأثيرات وسائل الاتصال، ذكرت نويل أن الحياة الواقعية تختلف عن الدراسات التي يتم التحكم فيها في المعمل، وبينت نتائج دراستها التي أجرتها على المدى الزمني الطويل أن التأثيرات وسائل الاتصال تزيد إلى حد الذي يجعل عملية الإدراك الانتقائي صعبة، وذكرت أن هناك ثلاث سمات رئيسية لوسائل الاتصال تضف أو تقلل من الإدراك .

 الانتقائي وهي:

     وسائل الاتصال تحيط بنا وتحاصرنا في كل وقت كما أنها تسيطر على بيئة المعلومات، وفي المجتمع – الحديث يصعب أن نتجنب رسائل هذه الوسائل يوميا، تراكم رسائل وسائل الاتصال الجماهيرية، فالأخبار والوسائل تعاد يوميا وحتى برامج التسلية تعزز -وتقوي تأثير هذه الرسائل. تشابه الصحفيين، فالأخبار في وسائل الاتصال تتماثل وإن وجدت اختلافات ضئيلة بينها، إلا أن -التشابه هو السمة المميزة السلطة أو أصحاب المؤسسات الإعلامية في توجيه رأي الأفراد من خلال اختيار وبث القضايا التي يرغبون فيها على حساب قضايا أخرى ومحاولة التركيز فيها. (يتبع)

الهامش:

  • مارتن هيدجر ترجمة محمد سبيلا و هشام  ت، التقنية – الحقيقة –الوجود، ص 75.
  • حسن عماد مكاوي ، نظريات الإعلام ،مرجع سبق ذكره، ص140.

 

Leave a Reply