إعداد: دليلة قدور
تأليف : شاكر صبري -مصر-
رسوم : آلاء مرتيني
كانَ يوماً عَسيراً شَديدَ البُرودةِ مُظلماً ، يَبْعَثُ عَلى الكَآبةِ، ذا أَمْطارٍ غَزيرةٍ، وكُنتُ أَلْبسُ وَقْتَها مِعْطَفي السَميكَ ، المنسوجَ منْ الصوفِ الفاخِرِ ، كنتُ عائِداً منْ المَدْرَسةِ وحَقيبتي أَحْمِلُها عَلى كَتِفي ، وكُنْتُ أَلْبِسُ قُفَّازَينِ منْ الصوفِ ، وكُنْتُ أَضَعُ يَديَّ في مِعْطَفي حَتَّى لا تَبْتَلَّ مِنْ المَطَرِ الهاطِلِ ، وبَيْنما أَنا أَسيرُ ؛ إذْ وَجَدْتُ شَيْخاً كَبيراً يَجْلسُ وَحْدَهُ عَلى قارِعَةِ الطَريقِ، قدْ أَهْلَكَهُ البَرْدُ الشَديدُ والجوعُ، وبلَّ المَطرُ جِسْمَهُ وملابسهُ ، شَعَرْتُ ساعَتَها كَأنِّي أَموتُ ، قُلتُ : كَيْفَ يَتْرُكُ الناسُ مِثْلَ هَذا الشَيْخَ في هذهِ المِحْنَةِ ؟! .
كانَ الرَجُلُ تَرْتعدُ أَوْصالُه، وَقفْتُ بُرْهَةً أنظرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قُمْتُ عَلى الفَوْرِ بِالاِتِجاهِ نَحْوَهُ، ونادَيْتُهُ عدةَ مرَّاتٍ حَتَّى شَعَرَ بِوُجودي .
طَلْبتُ مِنهُ أَنْ يَأْتي مَعي إلَى مَنْـزلِنا، كانَ الرَجُلُ يُتَمْتِمُ بِكَلامِه، ولاَ أَسْتَطيعُ أنْ أَفْهَمَ ما يقولُ ، فَقَدْ أَثَّرَ البردُ عَلَيْهِ كثيراً ، وُهوَ يَرْتَعِشُ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ .
توجدُ عِنْدَنا وَسيلَةُ مَواصْلاتٍ ، تَقومُ بِتَوْصيلِ فَرْدٍ أَوْ اثْنانِ أَوْ ثَلاثَةٍ إَلى الَمنازِل، تُسَمَّى التوكْتوكُ، لمْ أَكُنْ أحتاجُ إليها حينَ عَوْدَتي مِنْ المَدْرسَةِ ؛ لِأَنَّ المَسافةَ بيْنَ المَنْـزِلِ والمَدْرَسةِ لَيْستْ كبيرة، والطريقُ هادِئُ وجَميلٌ ، وكَنْتُ أَشْعُرُ بالسَعادِةِ عِنْدَما أَتنـزَّهُ وأَنا ذاهِبٌ أَوْ عائِدٌ مِن المَدْرسَةِ ، ولَكِنَّ هَذهِ المَرَّةَ طَلَبْتُ توكتوكاً لِيَقومَ بِتَوْصيلي أَنا والشَيْخُ إلَى مَنْـزِلِنا .
فَتَحْتُ مِعْطَفي وأَدْخَلْتُ الشَيْخَ مَعي فيهِ ، وخَلَعْتُ قُفازايَ ، وجعَلْتُهُ يَلْبِسْهُما بعدَ أنْ مَسَحْتُ المِياهَ عَنْ مَلابِسهِ.
ووصلتُ إلَي المَنزلِ، فَدَخلْتُ عَلي الفَوْرِ وَأَعْلَمتُ والِدي بِما حَدَثَ .
رحَّبَ والدي تَرْحيباً شَديداً بِهَذا الرَجُلِ العَجوزِ .
وعلى الفوْرِ أَدْخَلْناهُ في حُجْرةٍ عِنْدَنا في المَنْـزلِ ، كانَ يَسْكُنُ فيها العامِلُ المَسْئولَ عنْ النَظافَةِ وزِراعَةِ حَديقَةِ الفيلَّا ، وَلَكِنَّهُ كانَ غائباُ لِزِيارَةِ بعضِ أَقارِبهِ .
قُمْتُ عَلى الفَوْرِ بِتَدْفِئَةِ الشَيخِ ، وأَحْضَرْنا لهُ مَلابِساً قَديمَةً مِنْ مَلابِسِ والِدي ، وأَحْضَرْنا لهُ مَشْروباً دافئاً حَتَّى بَدَأَ الرَجُلُ يَشْعُرُ بالدِفْءِ ، وَلمْ يَعُدْ يَرْتَعِشْ وبَدَأ يَتَكَلَّمُ ،ونَفْهَمُ ما يقولُ ، قالَ لَنا : إنَّنِي أَعيشُ وَحيداً، فَلا أَهْلَ لي لَقدْ ماتَتْ زَوْجَتي مُنْذُ سَنواتٍ عِدَّةٍ، وماتَ ابْني الذي كانَ يَعولُني مُنْذَ عامٍ تَقْريباً في حادِثٍ أَلِيمٍ ، ولَمْ يَعُدْ عنِدْي شَيءٌ أَمْلِكُهُ ، وقدْ طرَدَني صاحِبُ الحُجْرَةِ التي كُنْتُ أَسْكُنُ فيها مُنْذُ عِدَّةِ أَيامٍ .
كِدْتُ أَبْكي حُزْناً علَى حالِ هَذا الرَجلِ .
أَحْضَرْنا لهُ الطَعامَ ، ولَكِنهُ رَفَضَ ولَم يَتنَاوَلَ غَيرَ مَشْروبٍ دافئٍ .
نَظَرَ إَلَيْنا الرَجُلَ ثُمَّ قالَ : أَنتمْ أَهْلُ كَرَمٍ وَجودٍ ، وتَسْتَحِقونَ أنْ أَهِبَكُمْ خَيْرَ ما عِندي، ولَو كانَ عنْدي شَيْءٌ آخر أمْلِكُهُ ما تَأَخَرْتُ بهِ عَلَيْكُمْ .
كانَ ابْني قَدْ عَثرَ بالصُدْفةِ عَلى خَريطةٍ لِكَنْـزٍ كَبيرٍ في مِكانٍ بَعيدٍ عَنَّا ، وكنا قد عَزَمْنا عَلى أَنْ نَذْهَبَ لإِحْضارِ الكَنْزِ ولَكِنْ ماتَ ابْني قَبْلَ اليومِ الذي كُنَّا نَنْوي الذِهابَ فيهِ للبحثِ عَن الكَنْزِ ، وأَصْبَحْتُ وَحدي فَلَمْ أَقْدِرُ عَلى الوًصولِ إِلَيهِ ، كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يَكونَ ابْني مَعي لِمُساعَدَتي في العُثورِ عَلَيْهِ، وأَخْرَجَ الرَجُلُ مٍنْ سِرْوالهِ خَريطَةً قَديمَةً ، لَها رائِحَةٌ غريبةٌ تَشُمُّها مِنْ قُرْبٍ ، أخذها والدي وفتحها ، ووَجدَها فِعْلاً خَريطةً أَثريةً ، أَدْخَلَها والدِي في حَقِيبَتِهِ ، وقالَ لي: دَعْها الآنَ حتَّى يأْتي وَقْتٌ مُناسبُ لفَحْصها والنَظَرِ في أَمْرِها.
و ترَكْنا الرَجلَ ليَسْتَريحَ ويَنامَ .
وفي اليومِ التالي وَجَدْنا أَنَّ حالَتَهُ الصِحِّيَةَ قدْ تَدَهْورتْ كَثيراً، فَقُمْنا علَى الفَوْرِ باسْتِدْعاءِ الطَبيبِ ، الذي قامَ بإِعْطائِهِ بعضَ الأَدْوِيَةِ ، ثُم قالَ لَنا : إِنَّهُ يَدْخُلُ الآنَ في مَرْحَلةٍ متدهورةٍ ، تَعَجَّبَ والدِي وقالَ لَهُ : كَيْفَ وَقدْ قُمْنا بِرِعايَتِهِ ؟ قالَ الطبيبُ :
إنَّ جِسْمَهُ الضعيفَ تَحمَّلَ كَثيراً منْ البَرْدِ والجوعِ لِفَتْرَةٍ طَويلَةٍ ، وَقَدْ أَنْقَذْتُموهُ بَعْدَ فواتِ الأَوانِ ، وأَنْتُمْ لمْ تُقَصِّرُوا في واجِبِكِمْ تِجاهَهُ، كَما أنَّ السِنَّ لهُ دَوْرٌ كَبيرٌ في عدَمِ قُدْرَةِ الرَجُلِ علَى تَحَمُّل التَعَبِ .
ثمَّ تَرَكَ لَنا الطَبيبَ بعضَ الأَدْويةَ نَسْتَخْدِمُها عندَ اللُزومِ ، حتَّى نَكون قدْ أَدَّيْنا دَوْرَنا نَحْوَ هَذا الرَجلَ ولمْ نُقَصِّرْ في رِعايتِهِ .
اسْتَيْقَظَ الرَجُلُ منْ غَفْوَتِهِ ، وَبَدأَ يَتَكَلَّمُ مَعَنا ، كَأنَّما لَيْسَ بهِ مَرَضٌ ، وحَكَى لَنا عنْ بعَضِ حِكاياتِهِ ، وأَنَّهُ كانَ يَمْلِكُ مَنْـزِلاً كَبيراً وأَراضٍ زِراعِيَةٍ كَثيرةٍ ، ولكنْ بعضُ أَقارِبِهِ خَدعَهَ وقامَ بالاسْتيلاءِ عَلَيْها ؛ خاصَّةً بَعْدَ أنْ ماتَ ابْنَهُ الشابُّ في حادثٍ مُفاجئٍ ، ثمَّ تَرَكَهُ بلا منـزلٍ يَعيشُ فيهِ وبِلا مَصْدَرٍ لِلْعَيْشِ .
أَشْفَقْنا كَثيراً علَى حالِ هَذا الشَيْخِ الكَبيرِ .
وانْتَظَرْنا مَعَهً نقومُ علي رِعايَتِهِ، وفي صَباحِ اليَوْمِ الثالِثِ ، ذَهَبْتُ لإيقاظِهِ فَوَجَدْتُهُ قَدْ لَفَظَ أَنْفاسَهُ الأَخيرةَ
فقُمْنا علَى الفورِ بِمَراسِمِ الدَفنِ والجَنازَةِ، كَأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أفرادِ عائِلَتِنا وحَزنَّا عَليهِ كَثيراً ، وقُلْنا : لَيْتَنا اسْتَطَعْنا أَنْ نُقَدِّمَ لهُ شَيئاً أَكْثَرَ مِنْ هَذا . (يتبع)
Leave a Reply
Vous devez vous connecter pour publier un commentaire.