شيخ الزاوية البلقائدية الهبرية سيدي محمد عبد اللطيف بلقايد
مثال
للزهد والتواضع بقلوب يعتصرها الحزن وأرواح تملؤها الحسرة، ودّعت الجزائر واحدًا من أعلامها البارزين، الشيخ محمد عبد اللطيف بلقايد الإدريسي الحسني العلوي المحمدي، شيخ الزاوية البلقائدية الهبرية، الذي انتقل إلى جوار ربه يوم 26 فبراير 2025، عن عمر ناهز 88 عامًا، بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والدعوي، ومسيرة نضالية طويلة في خدمة الدين والوطن.
وُلد الفقيد في 28 أكتوبر 1937 بمدينة تلمسان، ونشأ في كنف والده الشيخ محمد بلقايد، الذي أولاه اهتمامًا بالغًا في تعليمه وتكوينه الروحي والفكري. منذ صغره، كان محل رعاية خاصة، حيث نقله جده أحمد بلقايد إلى الشيخ سيدي محمد الهبري، الذي نظر إليه متفرسًا وقال: “إن ابني هذا سيكون له شأن في هذه الطريقة”. لم يكن هذا التوقع إلا نبوءة صادقة تحققت على مدار العقود، إذ سار الفقيد على نهج أسلافه في نشر تعاليم الإسلام المعتدل وترسيخ قيم التسامح والوسطية.
تلقى تعليمه الأولي على يد عمه الشيخ عبد الكريم بن الحاج محمد بلقايد، فتعلّم القرآن الكريم وأتقن علومه، ثم واصل دراسته في الفقه والسيرة والعقيدة تحت إشراف والده، قبل أن ينهل من علوم اللغة والآداب على يد نخبة من العلماء، من بينهم الإمام الشيخ البشير بوهجرة. كان سريع البديهة، حاضر الذهن، كثير التأمل، ولم يكن يكتفي بالتلقي بل كان محاورًا قويًا، يخوض نقاشات علمية مع كبار العلماء، على غرار الشيخ محمد متولي الشعراوي، وهو ما أكسبه مكانة علمية متميزة في سن مبكرة.
كرّس الفقيد حياته لخدمة العلم والدعوة، فأسس الزاوية البلقائدية الهبرية بقرية سيدي معروف بوهران، وجعلها منارة للعلم والتربية الروحية. لم تكن هذه الزاوية مجرد مكان للذكر والتعبد، بل تحولت إلى معهد علمي خرّج أجيالًا من العلماء والفقهاء، حيث توافد إليها طلبة من مختلف بقاع العالم الإسلامي، بما في ذلك المغرب، تونس، مصر، سوريا، اليمن، ولبنان، وحتى من بعض الدول الغربية. وقد نجح العديد من خريجيها في مسابقات وزارة الشؤون الدينية، ليصبحوا أئمة وخطباء ومدرّسين للقرآن الكريم.
إلى جانب مسيرته العلمية، كان الفقيد مناضلًا وطنيًا شارك في الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، حيث تولى مسؤولية التنسيق بين المجاهدين، وتأمين خطوط الاتصال بينهم، بالإضافة إلى جمع السلاح وتوزيعه. تعرض لمطاردات عدة، ونجا من محاولة إعدام رمياً بالرصاص، كما نجا مع والده وأخيه من المعتقل الاستعماري. وبعد الاستقلال، واصل جهوده في بناء الجزائر، حيث أشرف على تنظيم استفتاء 2 ديسمبر 1962، وساهم في اختيار الشخصيات التي شغلت مناصب في الدولة.
كان الفقيد مثالًا للزهد والتواضع، ولم يكن يرى في نفسه سوى خادم للطريق والفقراء، وكثيرًا ما كان يردد: “لست سوى خادم للطريق والفقراء”. حياته كانت زاخرة بالعطاء، ولم يتوانَ عن تسخير كل ما يملك لخدمة الزاوية وطلبتها، حتى غدت قبلة للباحثين عن العلم والمعرفة.
برحيل الشيخ محمد عبد اللطيف بلقايد، فقدت الجزائر أحد أبرز علمائها، ورجلًا حمل على عاتقه أمانة نشر الدين وتعاليمه السمحة، بعيدًا عن الغلو والتطرف. غاب الجسد، لكن الأثر باقٍ، وستظل الزاوية التي أنشأها شاهدًا على مسيرته، وأجيال طلبته الممتدة عبر الزمن خير دليل على إرثه العلمي والدعوي. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، وألهم محبيه وطلبته الصبر والسلوان.
وهيب قورصو
إرسال التعليق