جاري التحميل الآن

اإلنسان بين آلة الذكاء االصطناعي وصمت الضمير العالمي: حين تتشابك

اإلنسان بين آلة الذكاء االصطناعي وصمت الضمير العالمي: حين تتشابك

التكنولوجيا والدماء

بقلم : أمينة شارف
في زمٍن ُتسَبغ فيه على التكنولوجيا هالة من القداسة، وُيرَّوج للذكاء االصطناعي كمنقذ للبشرية من جهلها وتأخرها،
أمام مرآة وجوده. يتساءل: هل أنا سيد هذا العصر أم عبٌد آللة خلقتها يدّي؟ وبينما تتسارع

يقف اإلنسان حائرًا

كل زاوية من حياتنا، تذبل في الضفة األخرى من العالم صرخة طفٍل في غزة، ال
ّل
برمجيات الذكاء إلى أن تحت
.يسمعها أحد
الذكاء االصطناعي: سالح ذو حّدين
ما كان ُينظر إليه كحلم طوباوي بتحرير اإلنسان من أعباء العمل، تحّول إلى تهديٍد وجودي لقيم العمل ذاته. الذكاء
االصطناعي، في غزوه لألسواق، ُينتج فجوة جديدة بين نخبة تتحكم في الخوارزميات وجموع ُيعاد تشكيل مصيرها
وفق معايير رقمية باردة. وهنا السؤال: هل التكنولوجيا تخدم اإلنسان، أم ُيعاد تشكيل اإلنسان ليخدم التكنولوجيا؟
من زاوية أعمق، يتحدث فالسفة التقنية عن “مأزق األتمتة”، حيث يتحول اإلنسان إلى كائن ُمراَقب دائًما، محاصر
بأنظمة ذكاء ُتعيد صياغة رغباته وفق بيانات ُتجمع عنه دون وعيه. في هذا السياق، لم تعد المسألة تتعلق بوظائف

فَّكك خطوًة خطوة

.مهددة فقط، بل بهوية إنسانية ُت
“عندما يصبح الضمير العالمي مجّرد “برمجية

قصف مشاعر أٍّم فلسطينية فوق أنقاض

في المقابل، وبينما تنشغل العقول بصياغة تقنيات “ُتحاكي المشاعر”، ُت
بيتها. ما الجدوى من تعليم اآلالت “التعاطف” فيما العالم ُيمارس أبشع صنوف الالمباالة تجاه مآسي الشعوب؟ هل

ذكرنا بإنسانيتنا؟

صرنا نحتاج إلى خوارزمية ُت
لقد باتت المؤسسات الدولية الكبرى تتعامل مع المآسي اإلنسانية كإحصائيات باردة، تخضع العتبارات سياسية
واقتصادية أكثر من خضوعها لصرخة الحق. فغزة اليوم ليست أزمة ضمير فقط، بل انعكاس لمجتمع دولي فقد القدرة
.على الفعل ألنه فقد أوًال اإلحساس

التطبيع مع األلم: السقوط األخالقي للعصر الرقمي
لم تعد الكارثة في غياب الفعل اإلنساني، بل في تطبيع العالم مع مشاهد الدماء كجزء من “تدفق األخبار”. مشاهد
إال بقدر ما تتيح

قتل األطفال في فلسطين أصبحت مجرد مقاطع ُتستهلك في خضم زخم المحتوى، ال تحرك ساكنًا

قّنن حتى األلم

.”تفاعًال” على منصات رقمية تتحكم بها خوارزميات ُت

، تحّولت إلى عامل تطبيع صامت. الصور التي
تراكميًا
إن آلية التكرار اإلعالمي، التي كان ُيفترض أن تخلق وعيًا
فجر ثورات غضب أصبحت، مع كثرة استهالكها، مجرد مشهد اعتيادي ضمن روتين التصفح اليومي
.كانت ُت

بكي اآللة وَتصمُت اإلنسانية

المفارقة المأساوية: حين ُت
أي عبث هذا؟ نحن نصنع آالت تبكي عندما ترصد إشارات حزن في الصوت البشري، بينما عواصم القرار
العالمي ُتشّيع إنسانيتها تحت ركام صمتها. مشهد غزة اليوم هو اختبار للضمير العالمي: هل نزال نملك القدرة

؟ أم أن عصر “الذكاء االصطناعي” هو ذاته عصر “الضمير االصطناعي”؟

على أن نكون بشرًا

، بل أزمة وجودية عميقة: كيف يمكن للبشرية أن تبرمج آلة
تكنولوجيًا
في واقع األمر، ما نشهده اليوم ليس فقط تطورًا
تتعاطف مع األلم، فيما اإلنسان نفسه يعجز عن الشعور به؟ إنها مفارقة تضع اإلنسان أمام مأزق أخالقي لم يعشه من

.قبل
االستعمار الجديد: من االحتالل العسكري إلى االستعمار الرقمي
إن ما يحدث في غزة ليس معزوًال عن سياق أوسع من استعمار جديد ُيماَرس بوسائل ناعمة. في السابق، كانت
الدبابة تحتل األرض، أما اليوم، فالخوارزميات تحتل العقول. السيطرة على تدفق المعلومات، إعادة تشكيل الرأي
.العام، فرض أجندات إعالمية خفية؛ كلها أدوات استعمارية حديثة تسعى إلخضاع الشعوب دون طلقة واحدة
إن تطويع التكنولوجيا لخدمة أجندات سياسية واقتصادية ال يقل خطرًا عن الحروب التقليدية. بل هو أخطر ألنه
ُ.يماَرس في الخفاء، وُيعيد صياغة وعي الشعوب ليقبل بالظلم كأمر واقع
العالم ال يحتاج اليوم إلى آالت أذكى بقدر ما يحتاج إلى قلوب أصدق. ال معنى لذكاٍء يتعاظم، فيما الضمير يتقلص إلى
برمج وفق مصالح القوى الكبرى. اللحظة الراهنة تضع اإلنسانية أمام مفترق طريق: إما أن تعيد صياغة
شيفرات ُت

من اإلنسان نفسه
ًة
بالعدالة والرحمة، أو تستعّد لزمٍن ُتصبح فيه اآللة أكثر إنساني

.مفهوم التقدم ليكون مشروطًا
صرخة غزة، في ظل طنين آالت الذكاء االصطناعي، ليست مجرد نداء للنجدة، بل هي اختبار حقيقي لمدى بقاء
نستفيق فيه على
ٍم
، أو نستعّد ليو

“اإلنسان” فينا. إما أن نعيد ضبط وعينا الجمعي، وننتصر للقيم التي تجعل مّنا بشرًا
بال بشر.. فقط آالت تتقن كل شيء، عدا أن تكون حية
ٍم
.عال
.فالتحدي اليوم لم يعد في صنع آالت تفكر، بل في إنقاذ اإلنسان من أن يتحول هو نفسه إلى آلة

إرسال التعليق