الذكرى ال 68لمعركة بالي بجبال عشعاشة
معركة كبيرة بحاجة الى نصب تذكاري يخلد ذاكرتها
شهدت منطقة عشعاشة كباقي مناطق جبال الظهرة الأبية وغيرها من المناطق في الجزائر مقاومات مستميتة ضد الاستعمار الفرنسي وهذا منذ الأيام الأولى التي وطأت أقدام جيشه الغاشم أراضيها الطاهرة فكانت عنوانا لرفض هذا المستبد ودفعت النفس و النفيس و التضحيات الجسام مقابل هذا الرفض ، كما كانت موطن لثورة شعبية كبيرة قادها الشيخ محمد بن عبدالله المعروف بالشيخ”بومعزة” مابين سنتي 1845 و1847 وكان من ابرز محطاتها الثورية محرقة الفراشيح18جوان 1845 التي تركت جرحا عميقا في الذاكرة المحلية والوطنية من خلال الفعل الشنيع الذي قام به الجيش الفرنسي بقيادة المجرم بيلسي الذي أباد قبيلة برمتها حرقا بالدخان والنار بعد أن حاصر أفرادها داخل المغارة وأضرم النار في فوهاتها .
تلك الفاجعة ورغم الألم الذي خلفته في نفسية الجزائريين وذاكرتها بفعل مأساتها إلا أنها تمثل من جهة أخرى صورة بطولية من صور كفاح الشعب الجزائري وتضحياته الذي فضل دوما التضحية و الاستشهاد في سبيل الله والوطن على الاستسلام للعدو الغاشم مثلما حدث مع أفراد من قبيلة عشعاشة سنة 1852 في سيناريو مشابه لملحمة بطولية من ملامح التاريخ ،فقد فضل أفراد تلك القبيلة الانتحار والموت غرقا في البحر بدل الاستسلام للجيش الفرنسي الذي حاصرهم بأحد المرتفعات البحرية وطالبتهم بالاستسلام الا أن أبطال القبيلة سيرفضون ذلك مفضلين الرمي بأجسامهم في البحر و الارتطام على الصخور البحرية عوض تسليم أنفسهم للعدو الذي كان جنوده يجمع أشلاء وجثث هؤلاء الشهداء الملقاة على الصخور البحرية باستعمال سكاكين بنادقه في صورة وحشية من صورا لتنكيل والإجرام الوحشي .
مقاومات أهالي المنطقة لم تتوقف وأخذت أشكالا متعددة على طول سنوات الاستعمار قبل أن تكون أرضا لتضحيات الثوار خلال الثورة التحريرية بل أن المنطقة كانت حاضرة قبل ذلك وساهمت في التحضير لاندلاعها بفضل فوج عشعاشة بعناصره ال13 (بلقاسمي بلقاسم المدعو سي منصور ، يماني سي احمد ، بعلي عدة ، يماني عبد القادر ، محمد باي عبد القادر ، بوتليليس محمد ، بلعالية عبد القادر، بلرزق الجيلالي ، موسي بلقاسم ،زرقاني محمد ، خراز عبد القادر، بن نوار محمد ، مغنم احمد ) الذين اخذوا على عاتقهم مهمة التحضير لاحتضان الثورة وإعلانها بالمنطقة قبل أن يخوض أبطال جيش التحرير الوطني معارك وبطولات خالدة فوق أراضيها الطاهرة التي كانت مسرحا لعديد المعارك الكبرى على غرار معركة بالي ماي 1957 ومعركة ميلان وجبل زكار ومعركة يازرو ….الخ
في هذا المقال سنناول أحداث إحدى أهم تلك المعارك الخالدة التي ستبقى محفورة في الذاكرة المحلية بفضل مآثر وبطولات شهداء منطقة عشعاشة الذي دفعوا أرواحهم الطاهرة فداء للوطن .
بداية المعركة
وقعت المعركة في أحد سفوح جبل “بالي” الواقع في دوار تيمترايت ببلدية عشعاشة يوم الثلاثاء من شهر ماي 1957 واستشهد فيها حوالي 23 شهيدا من أبطال جيش التحرير الجزائري الذي كبد عناصر الجيش الاستعماري الفرنسي خسائر مادية وبشرية معتبرة منها طائرة من الطائرات العسكرية ال 11 التي كانت تحلق في الأجواء وتقصف المجاهدين بالصواريخ ومئات الضحايا بين قتلي وجرحي .
تعود وقائع هذه المعركة الكبيرة إلى ذات يوم من شهر ماي 1957 حيث وعن طريق معلومات مسربة للجيش الفرنسي بوجود كتيبتين لجيش التحرير الوطني في المنطقة أقامت الليلة بأحد المنازل في منطقة وادي خميس،إحداهما متكونة من 100 جندي وأخرى متكونة 200جندي ،حيث كانت الكتيبتان تستعدان لتنفيذ هجوم عسكري على فرقة الدرك الفرنسي المتركزة ببلدية بيكار (حضرة حاليا )، الا انه وبفعل تلك الوشاية من احد الخونة ، قام الجيش الفرنسي صبيحة ذلك اليوم بالتحرك بسرعة ونصب كمين للكتيبة التي كان يقودها “سي عبد العزيز ” بجبل بالي (موقع المعركة) حيث اشتبك الطرفان لمدة فاقت ال12 ساعات استعمل فيها الجيش الفرنسي اعتي الأسلحة ومن بينها 11 طائرة عسكرية وراح ضحيتها أكثر من 23 شهيدا حسب بعض الشهادات . في حين تكبدت عناصر الجيش الفرنسي خسائر بشرية ومادية معتبرة حيث فاق عدد القتلى والجرحى 100 جندي و تم إسقاط طائرة عسكرية كانت ترسل الصواريخ من الأعلى.
بونوار محمد (شاهد عيان -85سنة ):”…قمت بدفن جثث الشهداء بيدي …وبكيت وانأ أشاهد عناصر الجيش الفرنسي وهي تضرم النار في أجساد الشهداء و الجرحى من جيش التحرير …”.
يروي احد شهود العيان الذين عايشوا الحدث “بونوار محمد “(85سنة ) المدعو “قلايلو “والذي قام بدفن جثث المجاهدين المتوفين آنذاك في عين المكان بعدما انتهت المعركة وغادر الجيش الفرنسي المكان حيث يقول “…كان يوم ثلاثاء وهو موعد انعقاد السوق الأسبوعي بالمنطقة حيث سمعنا طلقات نارية منبعثة من الدوار فأسرعت إلى عين المكان أين لاحظت اشتباكات نارية وتبادل قوي لطلقات النار بين عناصر لكتيبة من جيشا لتحرير و الجيش الفرنسي الذي كان مزودا بطائرات تحلق وتقصف المكان فينبعث الدخان وتحجب الرؤية .المشادات كانت عنيفة ولا نسمع الا صوت الرصاص وكلمات الله اكبر المنبعثة من حناجر المجاهدين.علمنا لاحقا أن الكتيبة قد أقامت الليلة بضواحي المنطقة وكانت تستعد للهجوم على المركز العسكري الفرنسي “ببيكار” الا أنها كانت ضحية وشاية من خائن مما جعل الجيش الفرنسي ينصب كمينا لهم ويباغتهم بالهجوم مستعملا العتاد الثقيل والطائرات الحربية في حين تسلح مجاهدي جيش التحرير بالأيمان بالله والشجاعة ودافعوا على أنفسهم ببسالة لا مثيل لها …
خلال المعركة التي دامت لساعات متأخرة من المساء ، تمكن جيش التحرير من إلحاق خسائر معتبرة في الوسائل المادية والبشرية من خلال إسقاط طائرة عسكرية والقضاء على عدد كبير من الجنود الفرنسيين حيث يقارب عددهم ال 100 بين قتلي وجرحي ، فيحين استشهد حوالي 23 شهيدا من الجزائريين وأصيب قائد الكتيبة “سي عبد العزيز” بجروح خطيرة على مستوى الساق التي بترت بفعل طلقة صاروخ مما استدعى نقله على وجه السرعة إلى احد المراكز الصحية القريبة التي كان يستعملها الجيش الجزائري للعلاج ومداواة الجنود الجرحى أثناء الثورة التحريرية أين مكث المجاهد “سي عبد العزيز” مدة 6 أشهر بهذا المركز و في بيوت عائلات من المنطقة من أجل تلقي العلاج .في المساء وبعد ذهاب الجيش الفرنسي الذي نقل أمواته وجرحاه وترك الجزائريين أشلاء مبعثرة قمت برفقة اثنين من ساكنة الدوار بجمع جثث الشهداء وحفر قبور لدفن كل تلك الجثث وهربت من الغد من المدينة خوفا من إلقاء القبض علي …”
يضيف شاهد العيان واصفا بشاعة إجرام الجيش الفرنسي بعد انتهاء المعركة “…من المشاهد المؤلمة والمروعة التي عايشتها بعد نهاية المعركة صورة بعض الجنود لفرنسيين وهم يخرجون ولاعاتهم من جيوبهم يقومون برمي البنزين على جثثا لجرحى والأموات من الشهداء لإحراقهم بالنار وهم يتضاحكون وكان موتهم واستشهادهم لم يكفهم ويشفي غليلهم الدموي حتى يضرموا النار في أجساد متجمدة …”
يوضح هذا العمل الإجرام بالشيطاني مدى فظاعة الجرائم التي كان يقوم بها عناصر الجيش الفرنسي متجاهلين كل الأعراف والمواثيق الإنسانية التي تحفظ كرامة الإنسان في الحروب .
ضرورة التعجيل بوضع نصب تذكاري للحفاظ على ذاكرة المكان …
هذا ورغم القيمة التاريخية لموقع المعركة في الحفاظ على ذاكرة المكان الا انه لا يوجد أي نصب تذكاري و لا يوجد حتى لافتة للتعريف بالموقع التاريخي وتروي أحداث المعركة الكبيرة ومآثرها رغم الأصوات التي رفعها المجتمع المدني في مناسبات كثيرة لوضع نصب تذكاري يعرف بالمعركة وتاريخها حفاظا على ذاكرة المكان .
إعداد وتقرير:
بعلي محمد سعيد(أستاذ باحث بجامعة مستغانم )

إرسال التعليق