تيارت تحتضن الملتقى الوطني الأول لجمعية العلماء المسلمين: الفكر الإصلاحي وفلسفة الإنسان في قلب احتفالات يوم العلم
في أجواء علمية وفكرية رفيعة، وبمناسبة الاحتفاء بيوم العلم الذي يخلد ذكرى رائد النهضة الجزائرية الحديثة العلامة عبد الحميد بن باديس، انطلقت صبيحة اليوم الاثنين، الرابع عشر من أفريل 2025، بدار الثقافة الشهيد “علي معاشي” بولاية تيارت، فعاليات الملتقى الوطني الأول حول جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والذي اختير له شعار “بين الفكر الإصلاحي وفلسفة الإنسان”. وقد حظي الملتقى بإشراف مباشر من والي الولاية، السيد “سعيد خليل”، وبحضور كوكبة من الشخصيات العلمية والوطنية البارزة، يتقدمهم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الشيخ الدكتور عبد الحليم قابة، وأعضاء المكتب الوطني للجمعية على غرار الشيخ الفضيل محمد مكركب ، وجمع غفير من الأسرة الجامعية والمفكرين والطلبة.
ويأتي هذا الحدث العلمي الهام، الذي تنظمه جامعة ابن خلدون تيارت، ممثلة في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، وشعبة جمعية العلماء المسلمين بولاية تيارت، بالتعاون مع مخبر الدراسات الفلسفية وقضايا الإنسان والمجتمع ومديرية الثقافة والفنون، ليجسد حلقة جديدة في سلسلة الجهود الرامية إلى استلهام الإرث الغني لجمعية العلماء المسلمين، وربطه بقضايا العصر وتحدياته، خاصة في محور العلاقة الجوهرية بين الفكر الإصلاحي الذي حملت لواءه الجمعية منذ تأسيسها، وفلسفة بناء الإنسان وتمكينه.
“والي تيارت: جمعية العلماء جسدت مشروعاً حضارياً متكاملاً لبناء الإنسان الجزائري”
في كلمته الافتتاحية التي ألقاها أمام الحضور، أكد والي ولاية تيارت، السيد “سعيد خليل”، على الدور المحوري والمشروع الحضاري المتكامل الذي جسدته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ بزوغ فجرها عام 1931. وأوضح الوالي أن هذا المشروع تمثل في بناء الإنسان الجزائري الحر، المؤمن العميق بهويته، المدافع الصلب عن لغته، والمتمسك بثوابته الوطنية والدينية، وفي الوقت ذاته، المنفتح بوعي وبصيرة على معطيات عصره وتطوراته. وأضاف السيد الوالي أن الجمعية لم تكن مجرد تنظيم ديني أو ثقافي، بل مثلت مساراً فكرياً متكاملاً ونهجاً تنويرياً رائداً، أرست من خلاله فلسفة تربوية عميقة جعلت من العلم والإنسان محورين أساسيين لكل نهضة حقيقية ومنشودة، وهو ما يجعل استحضار فكرها ومنهجها ضرورة ملحة في زمننا الحاضر.
” تكريم قامات العلم وعرفان بإسهاماتهم في الفكر والوسطية وتكريم شهداء الجمعية”
وعلى هامش إشرافه على افتتاح الملتقى، حرص والي الولاية على تكريم قامات علمية وفكرية بارزة في الجزائر، تقديراً وعرفاناً بجهودهم الدؤوبة في نشر رسالة العلم وخدمة الأمة والفكر، وإسهاماتهم الرائدة والمشهودة في ترسيخ الفكر الإصلاحي وقيم الوسطية والاعتدال. وشمل التكريم كلاً من فضيلة الشيخ محمد مكركب أبران الجزائري، ورئيس جمعية العلماء المسلمين الشيخ الدكتور عبد الحليم قابة. كما شكلت هذه المناسبة فرصة لتكريم رمزي لعائلتي الشهيدين مشري ميسوم وبلعيد عبد القادر، وهما من أبناء ولاية تيارت ومن أعضاء جمعية العلماء المسلمين خلال فترة الخمسينيات من القرن الماضي، في لفتة تؤكد على الربط الوثيق بين تضحيات الأمس وجهود بناء المستقبل، والتأكيد على أن مسيرة الجمعية كانت دائماً جزءاً لا يتجزأ من نضال الشعب الجزائري من أجل الحرية والكرامة.
“الجامعة تفتح أبوابها للمجتمع: الملتقى تجسيد لاستراتيجية الانفتاح والشراكة”
من جهته، أوضح الدكتور حامق محمد، الأستاذ بجامعة ابن خلدون وعضو مخبر الدراسات الفلسفية وقضايا الإنسان والمجتمع، ورئيس اللجنة التنظيمية للملتقى، أن هذا الحدث العلمي يندرج ضمن استراتيجية واضحة يتبناها المخبر والجامعة ككل، تهدف إلى كسر الحواجز بين المؤسسة الأكاديمية ومحيطها الاجتماعي. وأكد الدكتور حامق أن الملتقى هو في الواقع ثاني تعاون مثمر بين المخبر وشعبة جمعية العلماء بتيارت، حيث سبقه ملتقى ناجح حول “المرأة والعمل”، خرج بتوصيات كان أبرزها الدعوة لتنظيم هذا الملتقى الحالي تزامناً مع يوم العلم. وأضاف: “نحن نؤمن بأن الجامعة اليوم في حاجة ماسة للخروج من أسوارها، والتفاعل الحي مع محيطها، من خلال تقديم خطاب علمي رصين له أثر فعلي وملموس في قضايا المجتمع الراهنة وتحدياته المتجددة. هذا الملتقى هو تجسيد عملي لهذه القناعة، وفرصة لفتح حوار بناء بين الأكاديميين والشركاء الاجتماعيين والمجتمع المدني بمختلف أطيافه”.
“جمعية العلماء: وعي بالتحديات الإقليمية والدولية وتمسك بالثوابت الوطنية”
لم يغب البعد الوطني والإقليمي عن أجواء الملتقى وتصريحات المشاركين فيه. ففي ظل التحديات الكبيرة التي تواجه الجزائر والمنطقة على مختلف الأصعدة، سواء في منطقة الساحل أو على المستوى الإقليمي والدولي، والتحولات الجيوسياسية المتسارعة، أكد المتحدثون على ضرورة توحيد الصفوف وتعزيز الجبهة الداخلية. وثمّن الدكتور حامق محمد القرارات التي تتبناها الدولة الجزائرية، لا سيما في سياستها الخارجية، لمواجهة ما وصفها بـ”الهجمات الإعلامية والسياسية الشرسة” التي تسعى لزرع الفوضى وزعزعة الاستقرار خدمة لأجندات خفية. وأكد أن الفاعلين الأكاديميين والمجتمعيين يساندون هذه التوجهات الرامية للحفاظ على الهوية والوحدة الوطنيتين، معتبرين أن مسؤوليتهم تكمن في المساهمة في ترسيخ هذه القيم.
وفي سياق متصل، وعكس موقف جمعية العلماء الثابت من القضايا العادلة، أشار الدكتور حامق إلى أن الجمعية نظمت وقفات وبيانات منذ بداية العدوان على غزة، نددت فيها بالاعتداءات الوحشية للكيان الصهيوني، وأكدت على رفض سياسة الإبادة الجماعية، وهو موقف يتناغم تماماً مع الموقف الرسمي والشعبي الجزائري الثابت من القضية الفلسطينية.
“رئيس جمعية العلماء: تيارت أرض علم.. ودعوة للشباب للاهتمام بتراث الجمعية”
وكان رئيس جمعية العلماء المسلمين، الدكتور عبد الحليم قابة، قد عبر في تصريحات سابقة تزامنت مع زيارة المكتب الوطني للجمعية لتيارت لأول مرة، عن سعادته بهذه الزيارة التي تزامنت مع يوم العلم، معتبراً إياها “نعمة كبيرة” على الجمعية وعلى ولاية تيارت، التي وصفها بأنها “بلاد علم وعلماء وفضلاء”. وأكد الدكتور قابة على استمرارية عطاء الجمعية ومساهماتها في التعليم وخدمة البلاد والمحافظة على استقرارها وأمنها وإيمان أهلها. كما دعا إلى اليقظة والانتباه للتحديات والمخاطر المحدقة، مؤكداً أن “أكبر قوة ننتصر بها على أعدائنا ونرهب بها أعداءنا هي قوة أُلفتنا واجتماع كلمتنا”. ووجه الدكتور قابة نداءً خاصاً للشباب، حثهم فيه على الاهتمام العميق بتراث الجمعية ورجالاتها، وخص بالذكر تراث الشيخ البشير الإبراهيمي الذي وصفه بأنه “تراث عظيم جداً” أثار إعجاب الباحثين حتى في المشرق العربي، بالإضافة إلى فكر الشيخ ابن باديس والشيخ الطيب العقبي والشيخ الفضيل الورتيلاني وغيرهم من أعلام الجمعية الذين ساهموا في إرساء دعائم الوحدة الوطنية والعزة.
مكتب الجمعية في تيارت : “تظاهرة لترسيخ العلم وتعاون مثمر”
من جانبه، عبر الدكتور الهاشمي عبد المالك زين الدين، رئيس المكتب الولائي لجمعية العلماء المسلمين بتيارت، عن سعادته وشرفه بالإعلان عن انطلاق هذه التظاهرة العلمية الهامة، معتبراً إياها تجسيداً للتعاون البناء بين جامعة ابن خلدون ممثلة في مخبرها البحثي، وجمعية العلماء المسلمين. وأكد أن اختيار يوم 16 أفريل لإقامة الملتقى يحمل دلالة عميقة كونه اليوم الذي أقرته الدولة كيوم للعلم، تكريماً وعرفاناً بجهود العلامة ابن باديس. كما أعرب عن عميق امتنانه لولاية تيارت وسكانها على حفاوة الاستقبال، ولرئيس الجمعية والوفد المرافق له على تشريفهم الملتقى بحضورهم، آملاً أن تترسخ هذه السنة الحميدة وتصبح لبنة تضاف إلى صرح العلم والمعرفة في الولاية، وخطوة للارتقاء بها نحو الأفضل.
“انطلاق الأشغال وتواصل الفعاليات”
وبعد الكلمات الافتتاحية ومراسم التكريم، انطلقت رسمياً أشغال الملتقى بجلساته العلمية التي يؤطرها أساتذة ودكاترة من مختلف جامعات الوطن، حيث من المنتظر أن تتناول المداخلات بالبحث والتحليل جوانب متعددة من فكر جمعية العلماء المسلمين وإرثها الإصلاحي، وعلاقته بفلسفة الإنسان وقضاياه المعاصرة، لتتواصل فعاليات هذا الحدث العلمي على مدار اليوم، وسط اهتمام كبير من الأوساط الأكاديمية والثقافية بولاية تيارت وخارجها.
يقف الملتقى الوطني الأول حول جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتيارت، ليس فقط كحدث أكاديمي بارز، بل كرمز حيوي يجمع بين خيوط الماضي والحاضر والمستقبل. لقد نجح الملتقى في نسج احتفالية يوم العلم بإرث الجمعية الإصلاحي العريق، وربطهما بحيوية النقاش حول فلسفة الإنسان، وتحديات الهوية الوطنية، ومتطلبات العصر.
إن روح التعاون التي جمعت الجامعة والجمعية وفعاليات المجتمع المدني، وتكريم قامات العلم والفكر ورموز التضحية، تعكس تطلعاً جماعياً لاستثمار الرصيد الفكري للجزائر في مواجهة تعقيدات الواقع الراهن، والتأكيد على أن بناء الإنسان هو حجر الزاوية في أي مشروع نهضوي.
ومع انطلاق مداولاته العلمية، يمثل هذا الملتقى شهادة على أهمية الحوار المستنير، وقوة العلم والمعرفة كدرع للأمة، وضرورة التلاحم الوطني في وجه التحديات الداخلية والخارجية. ويترك هذا الحدث الهام أملاً متجدداً في قدرة الفكر المستنير المستلهم من ثوابت الأمة وقيمها الأصيلة، على الإسهام الفاعل في تعزيز صمود الأمة، وترسيخ وحدتها، وتحقيق تقدمها وازدهارها.
وهيب قورصو
إرسال التعليق