جاري التحميل الآن

سي لخضر..شهيد مع وقف التنفيذ

سي لخضر..شهيد مع وقف التنفيذ

التاريخ : نوفمبر 1993– “…الله أكبر… الله أكبر”
الصرخات تتعالى في الأفق كالرصاص، تتزاحم الأجساد، تتشابك الأذرع، والحي بأكمله يهتز تحت وقع الأصوات. لم يكن هناك وقت للتساؤل، شيء في أعماقي صرخ بي: اركض
اندفعت، قدماي تضربان الأرض بقوة، أنفاسي تتقطع، والهواء البارد يلسع وجهي  . الأزقة الضيقة لم تكن تعيقني، بل تدفعني نحو قلب العاصفة. كل خطوة كانت تزيد الخوف اشتعالا في صدري.
وصلت… لكني اصطدمت بجدار من البشر، جدار من الوجوه المتجهمة والأعين الواسعة. دفعت كتف رجل، أزحت ذراع آخر، صرخت بأعلى صوتي:
– “ابتعدوا… دعوني أمر”
الأجساد كانت ثقيلة كأنها متجذرة في الأرض، لكنني شققت طريقي بالقوة. فجأة، انفتحت أمامي فجوة… ورأيت.
الأرض تحولت إلى مسرح صامت، والجميع إلى أشباح باهتة. هناك، في منتصف الدائرة، كان أبي… سي لخضر. جسده ممدد على الإسفلت، ساكن كالتمثال ، ووجهه هادئ بهيبة من أنهى معركته بشرف.
يده اليمنى تقبض على المسدس بقوة ، كأن روحه ما زالت فيه. أصابعه مخدوشة، متورمة، تخبر عن صراع شرس، عن يد رفضت أن تترك السلاح حتى حين كانت أنفاسه الأخيرة تتسرب.
زحفت نحوه، والدموع تحجب عني كل شيء إلا ملامحه.
– “بويي… انهض… أرجوك”
لا حركة… لا همسة… فقط الصمت .
صوت جارنا اخترق السكون، متهدجا، متقطعا:
– “حاولوا يأخذوا منه السلاح… ما قدروا… قاوم حتى آخر نفس.”
قبل أن أستوعب كلماته، شعرت بيد قوية تمسك بذراعي، تدفعني إلى الخلف، نحو “حوش بيتنا”. الباب أغلق بقوة خلفي، فاندفعت أضربه بجنون، أصرخ، أبحث عن مخرج، أبحث عن أي طريقة للعودة إليه.
ثم أحسست بيد تلتف حول عنقي، تشدني للوراء، صوت هادئ لكنه حاسم  يهمس في أذني:
– “اهدأ… مات رجلا، فعش رجلا مثله… ولا تبك كالنساء.”
التفت… كانت أمي.
رفيقة دربه صامدة الجبل ، عينيها تلمعان ببريق نار، لا دموع فيها فقط الحزن. في تلك اللحظة، شعرت وكأن الزمن توقف، وكل الأصوات حولنا تلاشت. عرفت الحقيقة… أبي لم يسقط  ضحية، بل رحل واقفا، فقد كان شهيدا مع وقف التنفيذ. كان يعرف منذ إلتحاقه بالثورة التحريرية أن روحه أصبحت ملك لهذا الوطن ، وأنها يوما ما ستبذل في سبيله.
من خلف النافذة، رأيتهم يحملونه على الأكتاف، خطواتهم بطيئة لكنها مهيبة. النساء يزغردن وهن يخفين دموعهن، الرجال يرفعون رؤوسهم بفخر ويكبرون “الله أكبر”. كان المشهد أشبه بموكب لأسطورة، لاسم سيبقى محفورا في ذاكرة الحي والمدينة والوطن.
مشيت خلفه، كأن خطواتي تسحب بقوة خفية. كل خطوة كانت سؤالا ينهش داخلي: هل ستكمل طريقه؟ هل ستقف حيث وقف؟
وبحسم أجبت نفسي: سأحمل وصيته كما حمل  سلاحه.
تذكرت كلماته في إحدى ليالي الشتاء، حين جلس بجانبي وألقى نظرة عميقة في عيني:
“إن كنت لم أهرب من فرنسا، فلن أهرب الان من  وطني “
يومها كانت جملة عابرة، تحديا بين أب وابنه… أما اليوم فهي وصية، ختمها بدمه، وتركها في قلبي لتصبح قدرا لا مفر منه.
حين عدت بعد الدفن، كان “حوش بيتنا”  ساكنا بشكل يبعث على القشعريرة. الجدران البيضاء التي كانت تردد ضحكاته، بدت باهتة، كأن لونها سحب معها إلى القبر. رائحة البارود التي التصقت بملابسه يوما، كانت ما تزال تلوح في ذاكرتي، ممزوجة برائحة التراب الذي احتضن جسده.
أمي جلست في زاوية الغرفة، ظهرها مستقيم، يداها مشبوكتان في حجرها، وعيناها معلقتان في نقطة غامضة على الجدار، وكأنها تحادثه بصمت. لم تكن تبكي… لكنها كانت غارقة في بحر أعمق من البكاء.
أنا، كنت أتنقل في البيت كالشبح، أفتح خزانته، أتحسس سترته العسكرية القديمة، أضع قبعته على رأسي، وأحاول أن أسمع صوته في عقلي:
“كن دائما في الصف الأول… حتى لو كانت المعركة ضد التيار.”
تلك الليلة لم أنم… جلست على السطح، أنظر إلى السماء المظلمة التي غابت عنها النجوم، وكأنها تشاركني الحداد. كنت أسمع في داخلي همسات أبي، تتداخل مع أصوات الليل: نباح كلب بعيد، صفير الريح بين الأزقة، وبكاء طفل في أحد البيوت المجاورة.
مع الفجر، دخلت أمي الغرفة وهي تحمل فنجان قهوة سوداء، وضعته أمامي وقالت بصوت ثابت:
– “الرجال لا يعيشون للراحة.”
الأيام التالية كانت مليئة بالوجوه… بعضهم جاء للتعزية، وبعضهم جاء فقط ليرى أين سقط الرجل الذي قاوم حتى النهاية. كنت أقرأ في عيون البعض الحزن، وفي عيون آخرين شيئا آخر… مزيج من الخوف والاحترام وربما الندم.
لكن أكثر ما أثارني كان زيارات رجال غريبين… وجوه قاسية، نظراتهم تبحث في البيت وكأنهم يفتشون عن شيء. كانوا يأتون متظاهرين بالمواساة، لكن أمي كانت تقابلهم ببرود، وكأنها تعرف أن قلوبهم ليست معنا.
ليلة ما، سمعت أمي تهمس في الظلام:
– “الذي قتل أباك لم يفعلها بيديه فقط… بل بعقل من خطط ووجوه من ابتسمت له.”
كلماتها علقت في عقلي كالإبر. بدأت أطرح الأسئلة التي لم أجرؤ على طرحها يوم الجنازة: من كان وراءه؟ ولماذا الآن؟ وهل كان اغتياله صدفة… أم حلقة في سلسلة أكبر بكثير؟
منذ تلك اللحظة، أدركت أن قصتي مع أبي لم تنته عند القبر… بل بدأت منه. لم يعد الأمر مجرد حزن أو فقدان، بل تحول إلى وعد… وعد بأن أبحث عن الحقيقة، مهما كلفني ذلك.
ومثلما كان يقول دائما:
“الموت ليس النهاية… النهاية هي أن نصبح مثلهم.”
…يتبع


بقلم : وهيب قورصو

إرسال التعليق