تضخيم الفضيحة وتغييب المأساة: كيف تتلاعب وسائل الإعلام بأولوياتنا؟
يعد الإعلام أداة قوية لتشكيل الرأي العام وتوجيه النقاشات الاجتماعية والسياسية. هذه السلطة لا تنبع فقط من القدرة على إيصال المعلومات، بل تتجاوز ذلك إلى اختيار ما يجب تسليط الضوء عليه وما يجب تجاهله، وفقًا لأهداف معينة قد تكون سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية. وفي عالم اليوم، حيث يصل الإعلام إلى كل فرد عبر منصات متعددة، تصبح هذه الاستراتيجيات أكثر أهمية وتعقيدًا. نستعرض هنا بعض هذه الاستراتيجيات الإعلامية مع أمثلة حديثة تتعلق بمغني الراب “ديدي” والأحداث الجارية في غزة ولبنان وإيران.
التغطية الانتقائية :
التغطية الانتقائية تعد من الأساليب المؤثرة التي تعتمدها وسائل الإعلام لاختيار الأحداث التي يتم التركيز عليها وتضخيمها، في حين يتم تجاهل أو تقليل التغطية لأحداث أخرى. هذه العملية ليست عشوائية بل تتماشى غالبًا مع أجندات محددة قد تكون سياسية أو اقتصادية. فالوسائل الإعلامية تمتلك تأثيرًا كبيرًا في تشكيل الواقع الذي يدركه الجمهور، ما يجعل التغطية الانتقائية أداة لتحكم الإعلام في الوعي العام.
في هذا السياق، إذا أخذنا فضيحة مغني الراب الأمريكي “ديدي” كمثال، يمكننا ملاحظة كيف يتم استخدام هذه الاستراتيجية لتوجيه الانتباه بعيدًا عن قضايا أكثر أهمية وتعقيدًا مثل الصراعات في غزة ولبنان. من خلال تضخيم قضية ترفيهية مثل هذه الفضيحة، يتم تحويل الأنظار عن الأزمات الإنسانية والسياسية الأكثر خطورة والتي تؤثر بشكل مباشر على حياة الملايين من الناس. هذا السلوك الإعلامي يخلق ما يمكن وصفه بـ”الأولوية الوهمية”، حيث تصبح الأخبار الترفيهية في مقدمة الاهتمامات، فيما تغيب القضايا ذات البعد الإنساني والسياسي.
ولا يقتصر تأثير التغطية الانتقائية على ما يعرفه الجمهور، بل يمتد ليشمل كيفية إدراكهم للعالم من حولهم. فعندما تركز وسائل الإعلام على موضوعات معينة باستمرار، تصبح هذه الموضوعات في نظر الجمهور أكثر أهمية. ونتيجة لذلك، يتم تجاهل القضايا الأخرى أو التقليل من أهميتها. وهذا يؤدي إلى تشكل تصور غير متوازن للأولويات الحقيقية التي تستحق الاهتمام. على سبيل المثال، عندما يتم التركيز على فضيحة “ديدي”، يتم تشتيت الانتباه عن الصراعات الجارية في الشرق الأوسط، مما يخلق انفصالًا عاطفيًا لدى الجمهور تجاه هذه القضايا.
علاوة على ذلك، لا يمكن تجاهل أن الإعلام نفسه ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو جزء من منظومة سياسية واقتصادية تتداخل مع مصالح معينة. كثير من المؤسسات الإعلامية الكبرى ترتبط بعلاقات مع جهات سياسية أو اقتصادية، وبالتالي فإن تغطيتها للأحداث تكون متأثرة بتلك العلاقات. وهنا يظهر دور التغطية الانتقائية كأداة لتوجيه الرأي العام بما يتماشى مع مصالح تلك الجهات. في حالة الصراع في غزة ولبنان، يمكن أن يكون غياب التغطية الكافية نتيجة لضغوط سياسية أو مصالح اقتصادية معينة. في المقابل، التركيز على فضيحة مثل قضية “ديدي” قد يكون محاولة لصرف الأنظار عن تلك الأزمات التي قد تضع بعض الجهات في موقف محرج.
وفي سياق متصل، يمكن القول إن تأثير التغطية الانتقائية يمتد إلى ما هو أبعد من الجمهور المحلي لوسائل الإعلام الغربية. في عصر العولمة، يعتمد الكثير من الناس حول العالم على الإعلام الغربي للحصول على المعلومات وفهم ما يجري في العالم. وعندما تركز وسائل الإعلام الغربية على فضيحة ترفيهية وتغفل الأحداث الجارية في مناطق الصراع، فإن الجمهور العالمي يتبنى نفس الأولويات، ما يؤدي إلى تغييب القضايا ذات الأهمية الإنسانية. هذا يؤدي في النهاية إلى تهميش أصوات الضحايا وتقليل الضغط الدولي على الجهات المسؤولة للتحرك من أجل حل تلك الأزمات.
التجاهل المتعمد :
تجاهل الأحداث في غزة ولبنان ليس مجرد صدفة عابرة، بل يعكس بشكل واضح استراتيجية إعلامية متعمدة تتماشى مع مصالح سياسية واقتصادية معينة. ففي الوقت الذي يعاني فيه السكان في غزة من ظروف إنسانية قاسية نتيجة الصراع المستمر، يتم التركيز على أخبار مثل فضيحة “ديدي”، مما يساهم في تشتيت الانتباه عن الأزمة الحقيقية التي تتطلب تدخلاً دولياً وإعلامياً للضغط من أجل إيجاد حلول.
لا يمكن النظر إلى هذا التجاهل المتعمد على أنه مجرد اختيار عشوائي من قبل وسائل الإعلام. فالإعلام في العصر الحديث يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الوعي الجمعي، وتحديد أولويات الجمهور من خلال ما يتم عرضه وما يتم إخفاؤه. فعندما تُقرر وسائل الإعلام تضخيم قضية شخصية تتعلق بمغني عالمي، في الوقت الذي تتجاهل فيه مأساة إنسانية تحدث في غزة، فإنها تُساهم بشكل مباشر في توجيه اهتمامات الجمهور وإبعاده عن متابعة القضايا التي تستحق تسليط الضوء عليها. هذه الديناميكية تسهم في خلق تصور مشوه للعالم لدى الجمهور، حيث تبرز الأحداث الهامشية على أنها الأكثر أهمية، بينما تتوارى الأزمات الحقيقية خلف ستار من التجاهل.
إضافة إلى ذلك، يمكن تفسير هذا التجاهل في ضوء الضغوط السياسية والاقتصادية التي تواجهها وسائل الإعلام الكبرى. فالكثير من المؤسسات الإعلامية تعتمد في تمويلها على إعلانات أو دعم من جهات معينة، وهو ما يجعلها في بعض الأحيان مضطرة لتجنب تغطية قضايا قد تسبب توترًا مع تلك الجهات. في حالة الشرق الأوسط، تتعقد الأمور أكثر بسبب التشابك السياسي والاقتصادي بين الدول الكبرى والمصالح التجارية العالمية، مما يجعل وسائل الإعلام تتجنب التطرق إلى القضايا التي قد تثير الجدل أو تتسبب في زعزعة تلك المصالح.
من ناحية أخرى، يتسبب هذا التجاهل في إضعاف الضغوط الدولية التي يمكن أن تُمارس على الحكومات أو الجهات المتورطة في الصراعات. عندما يتم تجاهل الأزمات في غزة ولبنان، يفقد الجمهور العالمي الفرصة للاطلاع على الحقائق والوقائع التي تجري على الأرض، وبالتالي يفقد القدرة على التأثير أو ممارسة الضغوط على صناع القرار. في المقابل، يؤدي التركيز على قضايا مثل فضيحة “ديدي” إلى خلق نوع من الانفصال العاطفي بين الجمهور والأزمات الحقيقية، مما يُسهِّل على الجهات المعنية الاستمرار في سياساتها دون خوف من ردة فعل إعلامية أو شعبية.
التضخيم الاعلامي :
تضخيم أحداث مثل قضية “ديدي” ليس بالأمر الجديد في عالم الإعلام، حيث يتم استغلال قضايا شخصية وهامشية لجذب انتباه الجمهور وتوجيهه بعيدًا عن الأحداث الأكثر أهمية وخطورة. في حالة غزة ولبنان، يُعتبر هذا التضخيم جزءًا من استراتيجية تهدف إلى خلق “سحابة سوداء” إعلامية تحجب الجرائم الصهيونية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني. هذه الجرائم، التي تشمل القصف العشوائي، والاعتداءات على المدنيين، والحصار الخانق على قطاع غزة، لا تحظى بالتغطية اللازمة في وسائل الإعلام الدولية، مما يساهم في تهميش أصوات الضحايا وتجاهل المعاناة المستمرة.
الإعلام الغربي، الذي يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام العالمي، يميل في كثير من الأحيان إلى التركيز على القضايا الترندية و الجدلية التي لا تهدد مصالحه أو تحرجه سياسيًا. في حالة الكيان الصهيوني، يتم تجنب تسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والتي تؤثر على المدنيين في غزة ولبنان، وذلك لأسباب تتعلق بعلاقات سياسية ودبلوماسية مع جهات دولية نافذة. وهنا يتجلى دور التضخيم الإعلامي لقضية مثل “ديدي” كوسيلة لصرف الأنظار عن الجرائم التي تُرتكب بشكل يومي في الشرق الأوسط.
ولا يمكن تجاهل أن هذا التضخيم يتزامن مع تزايد الدعوات الدولية للتحقيق في الانتهاكات التي تحدث في غزة ولبنان، ما يطرح التساؤل حول ما إذا كان هذا التضخيم يهدف إلى تقليل الضغط الإعلامي والشعبي على الكيان الصهيوني. ففي الوقت الذي تنشغل فيه وسائل الإعلام بقضية “ديدي”، يتم تجاهل تقارير حقوق الإنسان التي توثق الانتهاكات المستمرة ضد الفلسطينيين، والتي تشمل الاعتداءات على الأطفال والنساء وتدمير البنية التحتية.
عندما تُستخدم قضايا تافهة مثل فضيحة “ديدي” لإشغال الرأي العام العالمي، فإن ذلك لا يُعتبر مجرد انحراف عن الأولويات الحقيقية، بل هو جزء من استراتيجية إعلامية تهدف إلى تلميع صورة الكيان الصهيوني وتجنب النقد الدولي. هذا التضخيم يساعد على خلق نوع من التشويش الإعلامي الذي يُغيب الحقائق ويُغرق الجمهور في تفاصيل لا تساهم في توعية الناس بما يجري فعليًا على الأرض.
من خلال هذا التضخيم، يتم خلق تصور لدى الجمهور بأن الأحداث الكبيرة والهامة تتعلق فقط بالمشاهير وفضائحهم، بينما تتوارى الجرائم التي تُرتكب بحق شعوب كاملة خلف ستار التجاهل. هذا يُسهم في تهميش قضايا حقوق الإنسان ويمنح الجهات المتورطة في تلك الجرائم الغطاء اللازم للاستمرار في سياساتها دون الخوف من ردود فعل دولية أو إعلامية.
لذلك، يعد تطوير مهارات التفكير النقدي لدى الجمهور أمرًا ضروريًا عند استهلاك المحتوى الإعلامي. ينبغي على الأفراد أن يكونوا على وعي بأن ما يُعرض في وسائل الإعلام ليس بالضرورة “الحقيقة الكاملة”، بل غالبًا ما يكون انتقائيًا ويعكس مصالح وأجندات معينة. فهم هذه الديناميكية يساعد الجمهور على التعامل مع المحتوى الإعلامي بحذر، ويجنبهم الوقوع في فخاخ التضليل والتأثير غير المباشر. من خلال السعي إلى تنويع مصادر المعلومات والاطلاع على زوايا متعددة للأحداث، يستطيع الأفراد تكوين صورة أكثر شمولية وتوازنًا عن الواقع، مما يعزز قدرتهم على التمييز بين الأخبار الحقيقية والدعايات الموجهة، ويُمكّنهم من مقاومة تأثير التغطية الانتقائية والتضليل الإعلامي.
يعتمد الفهم العميق للأحداث العالمية على الوعي الكامل بالطرق التي يتم من خلالها تشكيل وتوجيه المحتوى الإعلامي. عندما يدرك الجمهور أن وسائل الإعلام قد تكون وسيلة للتلاعب بالعقول أكثر من كونها أداة لنقل الحقيقة، يمكنهم اتخاذ خطوات واعية لتجاوز حدود التغطية الانتقائية وتطوير فهم مستقل للأحداث.
بقلم وهيب قورصو
إرسال التعليق